لاول مرة یصف البیت الابیض حواراته مع ایران فی جنیف بالجادة والصریحة خاصة فیما یتعلق ببرنامج ایران النووی والذی تستعمله ایران حالیا لانهاء الحصار الاقتصادی اولا واعادتها الى الساحة الدولیة کدولة فاعلة معترف بها کقوة اقلیمیة بعد ان اثبتت للمجتمع الدولی ان دورها فی الشرق الاوسط لا یمکن ان یظل رهینا خاصة فی المناطق التی استطاعت ان تخترقها کالعراق وسوریا ولبنان لارادة القوى الاخرى المنافسة.
وبهذا تکون ایران بعد جلوسها على طاولة الحوار المباشر مع الولایات المتحدة وحلفائها فی الغرب قد احرزت تقدما بل نصرا لدبلوماسیة لم یکتب لها النجاح الا بعد ان ارتبطت بقوة ومناورات على الارض مباشرة.
لقد اعتبر هذا النصر استفزازا لحلفاء الولایات المتحدة فی المنطقة العربیة وخاصة السعودیة وجاراتها الخلیجیة بالاضافة الى "اسرائیل" والتی هی ایضا کانت تصر على مشروعیة المواجهة المباشرة العسکریة مع ایران.
واتضحت بشکل صریح جبهة المعزولین عن هذا الحوار او غیر المتقبلین لما سیسفرعنه من نتائج فی المستقبل فکثرت تحذیرات نتنیاهو فی المحافل الاعلامیة من خطر الانجراف وراء غزل الرئیس الایرانی وطاقم المفاوضات والتشکیک بجدوى التفاوض مع الثعلب الایرانی وهکذا فعلت الصحافة السعودیة خاصة وان هناک شعورا قویا بان مثل هذه المفاوضات الامریکیة ـ الایرانیة لا بد ان تکون على حساب مصالح المنطقة العربیة التی تطمح السعودیة لقیادتها وحشدها خلف مشروع الهیمنة السعودیة والتی بدأت تتآکل منذ فترة خاصة وانها فشلت فی حل معضلات عربیة کان آخرها الموقف السعودی من الثورات والتی أصرت السعودیة على إخمادها إما بالتدخل العسکری المباشر او المواربة ودعم القوى المضادة للثورة.
وقد ظهرت ملامح التراجع السعودی على الساحة العربیة فی تقریر استطلع الرأی العربی فی دول ومناطق معینة حیث انخفضت نسبة التقییم الایجابی للدور السعودی بین عام 2007 ـ 2013 فحسب استطلاع ‘بو العالمی’ انحدرت نسبة المؤیدین للسیاسة السعودیة ودورها فی المنطقة فی کل من تونس ومصر وترکیا ولبنان وبقیت نسبة المؤیدین لهذا الدور على ما هی علیه فی الاردن ومالیزیا واندونیسیا.
ویعزی التقریر انخفاض نسبة المؤیدین للدور السعودی بشکل ایجابی الى موضوع تدنی الحریات والحقوق فی السعودیة نفسها مما انعکس بشکل سلبی واضح على تقییم الدور السعودی اقلیمیا وعالمیا.
ومن هنا اتضحت الصلة بین الداخل السعودی والرأی العام الذی مسحه التقریر فی بعض المناطق العربیة والآسیویة حیث لا تستطیع أی دولة مهما کانت معطیاتها الاقتصادیة ضخمة ان تتواصل مع الرأی العالمی خاصة وهی لا تفرز نموذجا للحکم الراشد وقد أثر هذا بشکل واضح على تقییم الدور السعودی شعبیا.
أما فی مساحات الدبلوماسیة العالمیة حیث ربما لا تؤثر مثل هذه المعاییر على تعامل الدول بعضها مع بعض اذ ان المصالح وحدها تحدد مدارات التقییم والتعامل مع الدول الاخرى نجد ان عزلة السعودیة رغم ثقلها الاقتصادی واهمیتها الاستراتیجیة والنفطیة لم تحصنها من التجاوز المفاجئ الذی جمع بین ایران والولایات المتحدة على طاولة المفاوضات متجاوزا بذلک الرغبة السعودیة فی عزل ایران على المدى القریب والبعید، الا ان الدبلوماسیة السعودیة نفسها ادت الى عزل السعودیة بالاضافة الى "اسرائیل" ووضعتهما فی خانة المترقب لما ستنتج عنه هذه الحوارات دون ان یکون لای طرف القدرة على تحدید المسار او الخوض فی التفاصیل.
ونستطیع ان نجزم ان السیاسة السعودیة الخارجیة قد فشلت عندما استعدت الشعوب العربیة ذاتها خاصة فی مرحلة مخاضها العسیر الذی بدأ منذ 3 سنوات فکان تدخلها السافر الى جانب الانظمة القدیمة معیارا مهما خسرت على خلفیته القدرة على التعاطف مع الشعوب واعتقدت السعودیة ان أمنها القومی یظل مرتبطا بالحفاظ على المنظومة العربیة القدیمة تحت حکم الدیکتاتوریات السابقة وبذلت جهدها من اجل اعادة عقارب الساعة الى الخلف وهی بذلک فشلت فی تقییم المرحلة الحرجة کمرحلة انتقال من منظومة فاشلة الى منظومة جدیدة تستطیع ان تستوعب آمال وطموحات المجتمعات العربیة فارتبط اسم السعودیة بمفهوم الثورة المضادة فی الوعی العربی الجدید الذی تبلور تحت ضغط عملیة التغییر الشعبیة التی شهدتها الساحات العربیة مما أفقد السعودیة سمعتها فی المنطقة ونتج عنه ترد فی تقییم الموقف السعودی والذی انعکس ایجابیا على القوة الاقلیمیة المنافسة للدور السعودی فی العالم العربی.
وجاء التباعد الامریکی ـ السعودی خاصة فی مصر لمصلحة ایران التی حصدت ثمرة التوجس الامریکی من الموقف السعودی على الساحة المصریة وان کان الموقف الامریکی هو نفسه متذبذبا تجاه الاحداث فی مصر خلال الاشهر الماضیة الا ان الاختلاف فی المواقف کان واضحا رغم المیوعة الدبلوماسیة الامریکیة والضبابیة فی التعامل مع افرازات الساحة المصریة.
وبدأ التقارب فی المواقف تجاه هذه الافرازات یعکس مفارقة عجیبة حیث تجتمع السعودیة و"اسرائیل" فی الموقف تجاه احداث مصر بالاضافة من التقارب فی الموقف تجاه ابقاء ایران معزولة ومنفیة من المجتمع الدولی. وکلما زاد التقارب فی السیاسة الخارجیة السعودیة والاسرائیلیة لا بد أن ینعکس ذلک سلبیا على السعودیة وایجابیا على "اسرائیل".
فالاولى تخسر الکثیر جراء تبنی سیاسة تتناسق مع الموقف الاسرائیلی وتربح الثانیة الکثیر من توحد سیاستها مع اهم الدول العربیة اقتصادیا وسیاسیا کالسعودیة خاصة وأنها تطمح الى تطبیع کامل لیس فقط مع السعودیة بل مع جاراتها الخلیجیة لما فی ذلک من منفعة تتجاوز السیاسة الى تعاون اقتصادی او عسکری او تقنی فی المستقبل.
وان کانت السعودیة تطمح لان تلعب دورا مهما فی المنطقة فعلیها ان تکسر عزلتها الحالیة واول خطوة بهذا الاتجاه یجب علیها اعتمادها ان تفصل بین مصالحها العربیة ومصالح "اسرائیل" لما فی ذلک من نتائج سلبیة ستترتب على ذلک فی المستقبل القریب والبعید.
وقد تکون السعودیة حالیا معزولة عن الحوار الامریکی ـ الایرانی الا ان تبقى سیاستها فی خانة واحدة مع "اسرائیل" یشکل خطرا مستقبلیا لن تستطیع السعودیة ان تتجاوزه بسهولة وسیضر ذلک بموقفها دولیا خاصة على الساحة العربیة بل سیؤدی الى تداعیات وخیمة على ساحتها الداخلیة نفسها خاصة وان هذه الساحة اصبحت الیوم اکثر وعیا وانفتاحا وتجاوبا مع احداث المنطقة الاقلیمیة بشکل ملحوظ.
ولن تستطیع السعودیة ان تمتص هذا الانفتاح عن طریق تبنی سیاسة طائفیة محدودة حیث تصور صراعها مع الآخر الایرانی کصراع أزلی عقدی قد یؤدی الى صراع مجتمعی خطیر یفلت من ای محاولة لاحتوائه. والدول الفعالة اقلیمیا او عالمیا علیها اولا ان تتصرف بمنطق الدولة ولیس الفئة الضیقة حتى تثبت للعالم ان السیاسة مصالح مشترکة ولیس فئویة تعتمد على التجییش ومعاداة الآخرین على خلفیة عقائدهم وانتماءاتهم الدینیة.
هذا بالاضافة الى المصالحة مع المجتمع داخلیا وتقبل تعددیته ورغبته فی اصلاح سیاسی حقیقی بعدها فقط تستطیع دولة کالسعودیة فرض نفسها على الساحة الاقلیمیة دبلوماسیا دون الحاجة الى استعراض العضلات او شراء الولاءات باموال النفط.
فالنجم السعودی لا یمکن ان یسطع والسعودیة ذاتها لا تزال متخلفة عن بقیة الدول فی مجالات النهضة السیاسیة وحقوق الانسان والتمثیل الشعبی خاصة فی هذه المرحلة الجدیدة من التاریخ العربی المعاصر والعزلة التی فرضت علیها مؤخرا بعد ان بدأت المفاوضات الامریکیة ـ الایرانیة المباشرة هی نتیجة تراکم السلبیات السعودیة على المستوى الداخلی والخارجی.
وان کانت السعودیة جادة فی رغبتها الملحة لان یسطع نجمها على الساحة العربیة ومن ثم الدولیة علیها اولا واخیرا ان تبدأ من ساحتها الداخلیة وان لم تفعل ذلک کضرورة ملحة ستظل هذه العزلة قائمة بل ربما ستزداد خاصة وان المؤشرات تبدو انها لا تصب فی مصلحتها.
وما على النظام السعودی الا ان یخرج من عزلته لیس عن طریق تلمیع الصورة والعلاقات العامة بل عن طریق نهضة سیاسیة داخلیة لا بد لها ان تنعکس ایجابیا على سیاستها الخارجیة.
* د. مضاوی الرشید/ القدس العربی